الضرورة والحاجة الشرعيتين
قرار رقم 1 الندوة الفقهية السابعة 1995
إن الشريعة الإسلامية لا تختص بزمان دون زمان ولا بأمة دون أمة ولا بدولة دون دولة، بل يجب العمل بها على المسلمين حكوماتٍ وشعوباً إلى يوم القيامة، وتطبيق الشريعة الإسلامية كما يجب على الدول التي يحكمها المسلمون، يجب كذلك على الجاليات الإسلامية القاطنة في الدول غير الإسلامية أيضاً.
والحكومة في عصرنا الحاضر لا ينحصر نطاق عملها في مجالات معينة بل يتوسع ويشمل جميع شعب الحياة وتعتبر التشريع والتخطيط والهيمنة في كل مجال من مجالات الحياة حقها وواجبها، ومن جراء ذلك أصبح المسلمون الذين يعيشون تحت النظام الغربي للحياة وفي البيئة السائدة له (وبخاصة الدول غير الإسلامية ) في ضيق وكآبة شديدة، وأصبح من الصعب والعسير عليهم العمل بعديد من أحكام الإسلام لأجل قوانين الحكومة، فإذا تركوا أحكام الشرع لامتهم أنفسهم، وأقلقهم قلقاً شديدًا خوف عذاب الآخرة، وإذا عملوا بها واجهوا ضيقاً شديدًا، ومنعتهم من ذلك قوانين العصر، وخرج عن نطاق سيطرتهم عديد من مجالات الحياة.
وفي هذه الظروف الراهنة مست الحاجة بشدة إلى توضيح توجيهات ومبادىء أساسية في ضوء أصول الشريعة من رفع الحرج ودفع الضرر والضرورة والاضطرار، يمكن على أساسها للعلماء التوصل إلى حلول صحيحة لقضايا الحاجة وعموم البلوى في العصر الراهن، وإخراج الأمة من المأزق الشديد والضيق في القضايا والمشكلات إلى ما يجوزه الشرع في ضوء أصوله وقواعده، والتيسير للمسلمين في الإطار الشرعي، وسد الباب كذلك في وجه خطر الإباحية والاستغلال السيء لأصول الضرورة والحاجة الشرعية.
وفي ما يلي نقدم قرارات هذه الندوة مصنَّفة حسب المحاور:
المحور الأول
في هذا الصدد قرَّرت الندوة ما يلي:
1- المصالح خمسة أساساً وهي مقصود أحكام الشرع، وهي حفظ الدين والنفس (بما فيه العرض) والنسل والعقل والمال، وإن الخلل في قيام هذه المصالح يوقع في الحرج والشدة التي تصل إلى حد الضرورة.
2- الضرورة يترتب عليها فقد النفس أو عضو من الأعضاء أو أن ينـزل بالإنسان من الشدة ما لا يستطيع احتماله.
والحاجة هي صيرورة الحياة معها عسرة يشق على الإنسان احتمالها من غير استحالة لاحتمالها.
3- فرَّق الفقهاء في الأحكام بين الضرورة والحاجة، وحاصل ذلك أنه على أساس الضرورة يقع الاستثناء من الأحكام المنصوصة التي تثبت حرمتها قطعاً، أما الحاجة إذا لم تكن عامة فيستثنى بها في الأحكام التي لم تكن ممنوعة بذاتها بل إنما كان منعها سداً لباب المحرمات الأخرى.
4- الحاجة إذا كانت عامة و ابتلي الناس بها فتنـزل منـزلة الضرورة، ويجوز بها الاستثناء في النصوص.
5- أساس الضرورة والحاجة هو المشقة، والمشقة شيء نسبي، لذلك يختلف المستوى في تعيين الضرورة والحاجة باختلاف المكان والمنطقة والظروف وقوة تحمل الناس والبلاد ذات الأغلبية المسلمة والبلاد التي يشكل فيها المسلمون أقلية، ولأجل هذا لابد من مراعاة هذا الجانب عند تعيين الضرورة والحاجة في بلاد الهند التي ليس للمسلمين فيها دور فاعل في التشريع وصنع القرار.
6- إن تعيين درجة الضرورة ودرجة الحاجة للأمور في العصر الراهن، أمر خطير ويتطلب حيطة ودقة نظر، لذلك يجب على علماء كل عصر أن يقوموا بتعيين الأمور التي دخلت الآن في درجة الضرورة والحاجة، ويجوز بها التخفيف في الأحكام، مع مراعاة ظروف وأحوال عصرهم، كما يجب كذلك أن يقوم بمثل هذا الأمر الخطير جماعة من العلماء حتى لا يفتح باب الإباحة تحت ستار دفع الحرج.
7- إذا كان نوع من المحرمات قد تم استثناؤه بالنص صراحة أو دلالة لم تبق حرمته، ويجب الأخذ بهذه الرخصة، أما الصور الأخرى التي يثبت التيسير أو الرخصة فيها بالنص أو باجتهاد الفقهاء فيرفع الإثم فيها فقط.
8- التيسير الثابت بالضرورة أو الحاجة يكون بمثابة الاستثناء كما تقتضيه الأصول مبدئياً.
المحور الثاني
تثبت الرخصة و الجواز بالضرورة في حقوق العباد والمعاملات وجميع الأبواب الفقهية غير الأمور المحرمة لذاتها من قبيل حق العبد وقتل النفس والزنا، ونطاق أثر الرخصة مختلف حسب التفصيل التالي:
1- إذا كانت الأحكام من قبيل المأمورات ولا يبطل من عدم الامتثال بها إلا حق الشارع فقط مثل كلمة الكفر، فعند الاضطرار تثبت رخصة ارتكابها مع بقائها محرمة، أي تبقى الحرمة ويرفع الإثم.
2- إذا كانت الأحكام من قبيل المنهيات، ولا يبطل منها إلا حق الشارع فقط مثل أكل الميتة ولحم الخنـزير وشرب الخمر، فهذه الأمور تكون مباحة عند الاضطرار، أي يرفع الإثم والحرمة، ويجب العمل بالمحظور.
3- إذا كانت الأحكام من قبيل المنهيات ويبطل بها حق العبد مثل قتل النفس بغير حق، والزنا، وإتلاف مال المسلم، فلها نوعان:
( أ ) إذا كان تلافي حق العبد ممكناً مثل إتلاف مال المسلم، فإن تلافيه ممكن بالضمان، فعند الاضطرار تثبت الرخصة مع بقاء الحرمة.
(ب) ولكن إذا لم يمكن تلافي ما تلف من حق العبد مثل القتل والزنا فلا تثبت الرخصة لها عند الاضطرار أيضاً، ويحرم العمل بها.
المحور الثالث
قد تؤثر الحاجة أيضاً في إباحة المحرمات مثل الضرورة، وفي بعض الأحيان تنـزل الحاجة منـزلة الضرورة، ولكن له بعض القيود والحدود، يلزم مراعاتها:
( أ ) إذا كان القصد في الحاجة المبيحة للمحرمات دفع الضرر لا جلب المنفعة، فإنه لا يجوز العمل الحرام لجلب المنفعة فحسب.
(ب) إذا كان القصد في الحاجة دفع المشقة غير العادية ، فإن المشقة التي توجد عامة في جميع الأعمال البشرية والأحكام الشرعية لا تدخل في إطار الحاجة المعتبرة.
(ج) إذا لم يوجد البديل المشروع لحصول القصد، أو كان البديل موجوداً ولكن لا يخلو من مشقة شديدة.
(د) ما يثبت بالحاجة يقدر بقدْرها، فلا يجوز التوسع فيها.
(هـ) يجب أن لا يلزم بدفع مفسدة ترتب مفسدة أكبر منها.
(و) أن تكون الحاجة حقيقية لا متوهمة.
المحور الرابع
يلزم توافر الشروط التالية في الضرورة المعتبرة لإباحة المحظورات:
1- أن تكون الضرورة واقعة بالفعل فلا يعتبر باحتمال وقوعها في المستقبل.
2- أن لا يكون لها بديل مشروع ومقدور عليه.
3- أن يكون خوف الهلاك أو الضياع قطعاً أو مظنوناً بالظن الغالب.
4- أن يتم بارتكاب المحرمات رفع الضرر الشديد قطعاً وبعدم ارتكابها وقوعه قطعاً.
5- أن لا يتجاوز قدر الضرورة .
6- أن لا يؤدي العمل بها إلى وقوع مفسدة مماثلة أو أشد منها.
المحور الخامس
1- هناك أسباب عديدة للضرورة والحاجة التي تثبت بهما الرخصة والتيسير في كثير من أحكام الشرع، وهي التي يسميها الفقهاء أسباب الرخصة أو أسباب التخفيف، وهي سبعة حسب القول المشهور:
السفر والمرض والإكراه والنسيان والجهل والعسر أو عموم البلوى والنقص.
2- في الأحكام المبنية على ” العرف وعموم البلوى” تكون “الضرورة والحاجة” و “رفع الحرج” ملحوظة بعامة، مع أن نطاق العرف وعموم البلوى والأحكام المبنية عليها في الفقه أوسع.
المحور السادس
1- اتفقت كلمة المشاركين في الندوة على أن الحرج والضيق العام والحاجة العامة في أمر ما تُنـزّل بعض الأحيان منـزلة الضرورة والاضطرار، ويكون الحرام والممنوع مباحاً عند الضرر غير العادي والضيق الشديد.
2- إن الأمور المحرمة بالنصوص الشرعية إذا وقعت الحاجة العامة والحرج والضيق العام في أي أمر منها فاستثناؤها من الحرمة المنصوصة بتنـزيلها منـزلة الضرورة أمر بالغ الخطر ومسؤوليته عظيمة ، فإن جميع الحاجات الاجتماعية والدينية لا تكون متساوية الدرجة، بل يكون بعضها مختلفاً عن البعض الآخر في نطاقها ولزومها، فلابد من الدراسة المعمقة والوافية قبل تعيين الحكم الشرعي للحاجات الاجتماعية.
3- إذا كانت الحاجة العامة بلغت بحيث عسر على الناس تجنبها ولا يوجد البديل المشروع والصالح للعمل، أو لا يمكن العدول عنها للإلزام القانوني فبناء على ذلك يثبت جواز العمل بها مع بقاء الحرمة المنصوصة مادامت الحاجة عامة[1].
4- وقبل إصدار الحكم بشأن مثل هذه الحاجة الاجتماعية لابد من إجراء دراسة عميقة لها، و يلزم فيها الاستعانة والاسترشاد بخبراء القانون والاجتماع حسب الضرورة، فإذا كانت الحاجة الاجتماعية متعلقة بمجال من مجالات الحياة لزم أولاً استيفاء المعلومات اللازمة حوله من أصحاب الاختصاص في ذلك المجال ثم قيام العلماء الربانيين ذوي البصيرة والعلم بمقاصد الشريعة وأحكامها بتعيين أن الحاجة الفلانية بلغت بحيث إذا صرف النظر عنها أصاب الأمة المسلمة الضرر الشديد حالاً أو مستقبلاً، ولذا فينبغي جوازها.
5- إن الأمور التي تعرض فيها ضرورة التخصيص في النصوص أو الاستثناء نظراً إلى الحاجة العامة لابد أن يقررها عدد صالح من العلماء والفقهاء بتشاورهم ومداولاتهم الجماعية في ضوء مقاصد الشريعة وأحكامها والأصول والقواعد الفقهية، بدلاً من أن يقررها أفراد على المستوى الفردي، لأن الجهد الجماعي هو الأحوط في مثل هذه الأمور الخطيرة المهمة.
1. الأستاذ شبير أحمد لايوافق المشاركين على جواز الحرمة المنصوصة قطعاً عند الحاجة العامة.